وقوله: [وضربهم الكتب بعضها ببعض] أي: يأتون إِلَى ما أنزل الله عليهم فيضربون بعضه ببعض، وهكذا كَانَ حال الأحبار والرهبان الذين كانوا يفسرون التوراة والإنجيل، فكانوا يضربون بعضها ببعض، فتفرقت النَّصَارَى واليهود إِلَى ما هم عليه اليوم شيعاً وطرقاً؛ حتى أنهم كتبوا أناجيل من عند أنفسهم، وكذلك أسفاراً للتوراة، فضاعت التوراة الحقيقية وضاع الإنجيل الحقيقي، ولما بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالوحي المبين ودعاهم إِلَى الدين وإلى الشريعة الناسخة، وكانت كتبهم الماضية قد حرفت جميعاً وتعرضت للتغيير والتبديل، حتى لم يبق منها نسخة يعتمد عليها في الصحة بسبب هذا الاختلاف والشتات والتفرق، وبعض الأناجيل كتبت عمداً لتثبت قضية من القضايا.
فمثلاً: إنجيل يوحنا الذي يجادل به النَّصَارَى إلى اليوم ويفسرونه في إذاعاتهم؛ كتب ليثبت أن المسيح ابن الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- يكتبون الإنجيل ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله -نعوذ بالله من البهتان ومن الافتراء عَلَى الله عز وجل- فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بهذا أهلكت الأمم قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض}.
إن القُرْآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً -حتى نأخذ آية ونعارض بها الآية الأخرى- بل يصدق بعضه بعضاً فكله من عند الله وكله حق، ولكن منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات،
فالمؤمنون الذين وفقهم الله للحق والخير والهدى يردون المتشابه إِلَى المحكم، فيفهم المتشابه من خلال المحكم، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهَؤُلاءِ يتركون الآيات الواضحات المحكمات ويذهبون إِلَى المتشابهات ويضربون كتاب الله تَعَالَى بعضه ببعض.